"فنتازيا الخيالة في الجزائر"
: مقدمة
- تعتبر كلمة فنتازيا في نظريات المفسرين كلمة يونانية الأصل والتي انتقلت إلى اللغة الاتينية المتأخرة والايطالية لتدل على معنى" تصميم الصور" و "مشهد متخيل" ويشار إلى نفس المصطلح في اللغة والتي تدل على الخيال وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللهجة الجزائرية بفعل الهجرات الأندلسية الكبيرة وهي دلالة فوق ذلك على المجد والجاه وطريقة من طرق الإفتخار
- من هنا كانت الفنتازيا عريقة عراقة التاريخ القديم،وفي الحقيقة لم تولي الدراسات التاريخية اعتبارا كبيرا لهذه الموروثات الشعبية الضاربة في الأعماق فكانت التاريخ في وقت سابق يعتمد على الوثيقة المكتوبة التي هي عماد البحث والدراسة فظلت بذلك الفنتازيا والفلكلور بأشكاله وأنماطه المختلفة بمنأى عن الدراسات التاريخية زمنا طويلا.
- ولكن الطفرات النوعية والتطورات الحاصلة في بلدان المغرب العربي والجزائر خاصة أماطت اللثام عن كثير من الحقائق، فقد أشرفت وزارة الثقافة على افتتاح معاهد ومراكز ومخابر للبحث في الأنثروبولوجيا وخصوصيات الشعوب على غرار المركز الوطني للبحث في عصور ما قبل التاريخ علم الإنسان والتاريخ والحظائر الوطنية والدواوين المكلفة بالحفاظ على هذه الموروثات العريقة.
- ولهذا فإن هذه الإلتفاتة الطيبة التي قامت على إثرها حملة واسعة لجمع وحفظ هذا الموروث قد دفعت بالمؤرخين للإعتراف عن ذلك السكوت الذي مسّ الموروث الثقافي الشعبي،والذي يحاول في الحقيقة أن يعطي لنا صورة واضحة عن الحقيقة التاريخية في عديد المناسبات،خاصة وأن هذه الظواهر المتمثلة في ممارسة أشكال الفنتازيا تعبر عن علاقة إنسانية مع البيئة والمجتمع تأكيدا على الذات وشخصية الأمة التي ينتمي إليها هذا الفرد،فلذلك برزت أهمية اعتماد المؤرخ على الموروث الشعبي بجانب مصادره التقليدية لإستيعاب الظاهرة التاريخية،ورسم صورة كلية عنها.
- ومن جملة هذا وذاك حاولنا تسليط الضوء على موروث ثقافي وفكري عريق ضارب في الأعماق والذي يسمى "فنتازيا الخيالة" أو "الڤوم" أو "التبوريدة" أو "أصحاب البارود" ،والتي هي مسميات تطلق كلها على الإستعراضات الفروسية التي تقام بالجزائر وباقي دول المغرب العربي.
- فيا ترى ما حكايتها ؟ وما هي جذورها التاريخية ؟ وما موقعها اليوم في مجتمعنا في ظل التطور التكنولوجي والإعلامي الهائل؟
- مكانة ودور الخيل"الحصان" في تاريخ الجزائر القديم:
- عرف النوميديون الحصان منذ العصور القديمة ،وقد وجدت صور للأحصنة في مناظر شتى بأن تم العثور على حوالي مائتين صورة نقشية،ويوجد في البعض منها أحصنة تعدو فوق سطح الأرض بقوة يبدو معها وكأنه لا يلامسها،وللإشارة فإن أغلبية المناظر كانت حريصة على إبراز صور الجياد المنطلقة وكأنها طير،وقد انتشر هذا النوع من الرسومات في منطقة التاسيلي والأهقار،وقد بدأ الإنسان النوميدي باستخدام الحصان للركوب منذ القرن السابع والخامس قبل الميلاد وابتداءا من القرن4 ق.م بعدما كان مقتصرا على عملية جر العربات وذلك حسب ما تورده الرسومات الجدارية.
- في عهد الممالك النوميدية كانت تربية الخيول هامة جدا للنوميديين فقد اشتهروا بالمهارة في ركوب الخيل وكانت نسبة فرسانهم أكثر من نسبة المشاة،فقد امتازت الأحصنة النوميدية بالصبر والدئابة وتحمل العطش والجوع والتعب،فلم تكن تتطلب عناية كبيرة بها فهي وديعة سهلة التدريب تنشدّ لنغم المزمار ومشهورة بسرعتها الفائقة.فقد استخدم النوميديون الحصان للصيد وللحرب فكانوا من أحسن الفرسان باعتراف القدماء.
- مكانة الحصان في العصر الجزائري الوسيط والحديث والمعاصر:
- بعد دخول الفاتحين العرب المسلمين إلى شمال إفريقيا تعالى شأن الحصان في شمال إفريقيا خاصة وأنه ذكر في القرآن الكريم،ثم إن الفاتحين أدخلوا سلالات جديدة وهي الأحصنة العربية الحرة والتي استعملت في المعارك والحروب،وحتى بعد قيام الدول المستقلة في شمال إفريقيا ومنها المغرب الأوسط"الجزائر" أعطيت مكانة كبيرة لها فأنشأت لها الإسطبلات وتم المحافظة على أصولها فمنها ما خصص للحروب ومنها ما خصص للملوك والقادة ومنها ما خصص للاستعراض والزينة،فقد كان عبد المؤمن بن علي المؤسس العسكري لدولة الموحدين يتباهى بها ويستمتع باستعراضاتها وفرق الجيوش التي كان يمتلكها وهي تمر أمامه حاملة الأسلحة والدروع والرايات.
- ومما زاد من شأنها أيضا هو تلك المقاومات الشعبية ضد الإستعمار الفرنسي التي حمل لواءها الأمير عبد القادر الجزائري ، وأحمد باي ، والشيخ بوعمامة...إلخ فقد دخل سلاح آخر إلى عالم الفروسية فوق السيف وهو البارود الذي استعمل كثيرا في هته المقاومات قبل أن تختفي تدريجيا المقاومة بالحصان أو الخيل بعد التطور العلمي الحاصل فأصبح الحصان يعد من الوسائل البدائية في المقاومة مع نهايات القرن التاسع عشر.
- فنتازيا الفروسية أو الخيالة:استذكار لأحداث الماضي واستحضار للحيثيات وتمجيد للبطولات.
- إن هذا الموروث الحضاري والثقافي الممارس الآن والذي وكما ذكرنا سابقا تختلف أسماءه هو عبارة عن محاكاة للوقائع والأحداث،يمارس في الجزائر وباقي بلدان المغرب العربي بمختلف مناطقه البربية والعربية،السهلية والجبلية. فما زال الحنين إلى الأيام الخوالد موجودا في المجتمع الجزائري،ولا زال ذلك الرباط الوثيق بين الفرد وفرسه أو حصانه حاضرا والذي يعود لآلاف السنين.
- فلذلك من خلال ما يسمى "بالوعدات" و"الزردات" و إقامة " الأعياد الدينية والتاريخية" و"الأعراس والولادات" و"المواسم الثقافية والفنية"،نرى ونشاهد تمثيليات بارعة لبعض الهجمات التي يقوم بها الفرسان وهم الممتطون لخيولهم المزينة مطلقين للبارود الذي تختلط صيحته العالية مع أصوات الفرسان وضرب الخيول القوية على الأرض.
- فتقام الفنتازيا هته في القرى والمداشر الجزائرية ذات المساحات الكبرى والواسعة ،فينتظرها الجميع وبشغف لمدة طويلة فهي تتمتع بجاذبية قوية على ابهار وامتاع المشاهدين الذين يتقاطرون من كل حدب وصوب خاصة وأنها تختلط في كثير المرات مع القصص الخرافية للفرسان والخيول فتضفي تأثيرا وسحرا على أذهان الحضور،فيقف الكثير منهم مذهولا مما شاهد وسمع.
- فالخيالة من الخيل والتبوريدة و"لاعابين البارود" من البارود والقوم من القومية وكلها مسميات ذات معنى واحد تقريبا اليوم رغم أنها أصول التسميات تختلف،فهي تعتبر استحضارا للملاحم العسكرية والحربية الواقعة في القدم القريب أو البعيد،ورمز للقوة والشجاعة والإقدام،وعاملا نفسيا يعبر عن الفحولة مشكلة تمظهرا فنيا مخففا لفنون الحرب والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالتراث الفروسي الجزائري عبر التاريخ.
- ترتبط هذه الفنتازيا ارتباطا عضويا بالعادات والتقاليد الخاصة بكل منطقة فنجد اختلافات بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب من حيث الألبسة التي يرتديها الفرسان،وزينة الخيول،ووطريقة الإستعراض،والكلام الذي يقوله رئيس المجموعة والتحية التي تقوم بها الفرقة للحضور،فيجب الأخذ بعين عوائد القبيلة أو العرش فمظهر الفارس وزينة الخيل،و تصميم السروج تختلف،بالإضافة إلى لون الجلابية وشكلها،وشكل النعل والسروال والعمامة.بالإضافة إلى الموروثات الشفوية سواءا كانت أساطير أم حكايات أم أغاني ملحونة...فمثلا الفنتازيا بين منطقة أولد نهار سبدو بتلمسان تختلف مع منطقة مستغانم أومنطقة تيارت أو البيض أومناطق أخرى من شرق البلاد،فهو ليس بالإختلاف الكبير ولكن اختلاف الأعراش واختلاف المشارب الثقافية يضمن اختلافات طفيفة ولكنها ملموسة في طرق الاستعراض.
- ومن بين مميزات هذا الإستعراض:
1:فن الخيالة هو محاكاة للأسلوب العسكري أيام الحرب،وأساليب الصيد والقنص أيام السلم،فتعتمد العملية بالدرجة الأولى على الكر والفر في هجوم وانسحاب سريعين.
2: يقام العرض الفروسي بتتابع المجموعات(السربات أو العلفات كما تسمى في الغرب الجزائري) تتكون المجموعة غالبا مابين عشرة وعشرين فارسا تكون تحت إمرة المقدم الذي يشرف على تنظيم وتحميس فرسانه.
3:تبدأ عملية الاستعراض باصطفاف للفرسان على صهوة أحصنتهم الرابضة على خط مستقيم في أقصى الحلبة أو الساحة التي تكون من التربة أو الرمل الذي يشترط ان لا يعرقل حركة الجياد.
4: قبل الإنطلاقة يستعرض الفرقة نفسها تحت إشراف المقدم وتقوم بتحية الحضور وتعود إلى مكانها الأول،وهناك الفرق التي يقوم مقدمها بالتعريف عن قبيلته آو عرشه وتحميس رجاله بذكر الخصال النبيلة فيهم.
5:تنتصب بعد ذلك الخيول دفعة واحدة تحت سيطرة الفرسان بيد واحدة واليد الأخرى تقوم بحركات لإستعراض البندقياتأو كما تسمى" المكاحل،الفرديات".
6:تنطلق الهجمة وفق نسق متسارع ووعندما تصل المجموعة إلى نصف الطريق والتي تمتد على مسافة مائة متر تقريبا ينتصب الفرسان دفعة واحدة ليقبضوا على مكاحلهم بكلتا اليدين راخيين الألجمة ويطلقوا البارود في نفس الإتجاه.
7:بمجرد إطلاق النار تعود المجموعة إلى منطلقها لتعاود الكرة أو لتترك الحلبة لمجموعة أخرى ريثما يأتي دورها من جديد.
- وتزيّن هته المشاهد الرائعة لمسات المتفرجين من رجال ونسوة بالتكبيرات والتهاليل والزغاريد والألحان، وكل هذا وذاك يخدم الثقافة الجزائرية والتراث والتاريخ الجزائري العريق الذي تحاول حاليا وزارة الثقافة المحافظة عليه بشتى السبل بالتعاون مع السلطات المعنية فتساعد على إقامة هته المناسبات،وتسهل عمليات التنقل،وتسهر على امن المواطنين الحضور،والأهم من ذلك تسجل ذلك في الكتب والمجلات،وتعرض على شاشات الإعلام ضمانا لسيرورة وبقاء هته العادات العريقة وتبليغها للأجيال القادمة والتي تعبر عن اصالة الجزائر والجزائريين،وحضورهم المبكر في التاريخ،ومساهمتهم الفعالة في الإنسجام الحضاري والإنساني منذ قرون.
- Jacques Cellard, Les racines grecques du vocabulaire français, De Boeck Université, 2004 (ISBN 978-2-8011-1354-7), p. 63...et : Marc-Antoine Jullien, Auguste Jullien et Hippolyte Carnot, Revue encyclopédique : liberté, égalité, association, vol. 40, Paris, Arthus-Bertrand, 1828, p 384.
- أشرف صالح محمد،الفلكلور هوية وتاريخ،مجلة كان التاريخية،العدد18،السنة الخامسة،ديسمبر،ص8.
- فتيحة فرحاتي،نوميديا من حكم الملك جايا إلى بداية الإحتلال الروماني(الحياة السياسية والحضارية 213ق.م/46ق.م،منشورات أبيك،الجزائر،2007،ص ص.224 ،225.
- Mourad Yelles-Chaouche, Cultures et métissages en Algérie: la racine et la traceL’Harmattan, 2005, p 85.
- Carlos Pereira, Parler aux chevaux autrement : Approche sémiotique de l’équitation, Éditions Amphora, 2009,
- .https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A7_(%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A)